| بين تجريم بن سلمان وتبرئته: هل بدأ السباق؟ Posted: 13 Nov 2018 01:15 PM PST ثمة مؤشرات عديدة على أن قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية المملكة في اسطنبول قد دخلت في منعطف جديد حاسم، ينطوي من جهة أولى على كشف المزيد من المعطيات عن مراحل التخطيط للجريمة وأدواتها والمتورطين المباشرين فيها وكيفية تنفيذها، كما ينذر من جهة ثانية بابتداء سلسلة من الجهود الدولية لغسل يدي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من دم القتيل. فالرئيس التركي باح بتفاصيل إضافية عن الجريمة، فكشف النقاب عن قيام السلطات التركية باطلاع السعودية والولايات المتحدة وفرنسا وكندا وألمانيا وبريطانيا على تسجيلات صوتية مروعة. كما شدد مجدداً على يقينه بأن الأمر بتنفيذ هذه الجريمة لا يمكن أن يصدر إلا من أعلى المستويات، وهذه إشارة مباشرة إلى بن سلمان بالنظر إلى أن أردوغان كان قد استبعد معرفة الملك سلمان بن عبد العزيز بمخطط الاغتيال. وإلى جانب ما تواصل الصحافة التركية نشره من معلومات، يتمّ تسريبها تباعاً من جانب السلطات القضائية والأمنية التركية، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تقريراً عن مقطع في التسجيلات الصوتية يتضمن مكالمة بين ماهر عبد العزيز المطرب أحد أعضاء فريق الاغتيال، وأحد مساعدي ولي العهد، يطلب فيها إبلاغ رئيسه بأن المهمة تم تنفيذها. ونقلت الصحيفة عن خبير سابق في وكالة المخابرات المركزية يعمل اليوم لدى «معهد بروكنغز» أن المكالمة هي أقوى دليل حتى الساعة على تورط بن سلمان في الجريمة. في المقابل بدأت تظهر مؤشرات على سعي بعض الدول الغربية إلى استبعاد مسؤولية بن سلمان عن إصدار أمر الاغتيال، تمهيداً لتبرئته وإعادة تأهيله واستئناف «البزنس» معه وكأن شيئاً لم يكن، وذلك عن طريق التركيز على تقديم أدوات التنفيذ الصغار إلى العدالة السعودية. بدأ الأمر من تلميحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى أفراد «عصاة» قاموا بارتكاب الجريمة، ثم استكمل مستشار الأمن القومي الأمريكي ريشارد بولتون هذه الجهود حين صرّح مؤخراً بأن التسجيلات لا تشير إلى بن سلمان بالإسم. من جانبه أدلى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بتصريح غريب في محتواه وتوقيته، حول عدم معرفته بتسجيلات تركية، وأن الرئيس التركي اردوغان يدير «لعبة سياسية» في هذا الموضوع، الأمر الذي يناقض حقيقة قيام السلطات التركية باطلاع الاستخبارات الفرنسية على تلك التسجيلات قبل أسابيع. وإذا كان حرص ترامب على عدم إيذاء بن سلمان على خلفية عقود الـ110 مليارات التي أبرمتها الولايات المتحدة مع الأمير، فإن لودريان معروف بشراهته القصوى إلى بيع الأسلحة الفرنسية إلى الشرق الأوسط منذ أن كان وزيراً للدفاع، وأنه في هذا يتابع خط رئيسه إيمانويل ماكرون الذي صرّح قبل فترة بأن من «الديماغوجية» المطالبة بوقف عقود التسليح مع السعودية على خلفية مقتل خاشقجي. تُضاف إلى هذه الجهود زيارة وزير الخارجية البريطاني جيرمي هنت إلى المملكة، واجتماعه مع ولي العهد بهدف بحث «الشراكة السعودية ــ البريطانية». فهل بدأ السباق بين تجريم بن سلمان، وبين غسل يديه من دماء خاشقجي؟  |
| مغزى العلاقات المكشوفة بين الدول الخليجية وإسرائيل Posted: 13 Nov 2018 01:14 PM PST يقضي المنطق البسيط أن تكون الأنظمة العربية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية منخرطة في تحالف موضوعي مع الدولة الصهيونية بحكم ارتباط هذه الأخيرة هي أيضاً بعلاقة وطيدة بواشنطن. وقد أدرك أنور السادات تلك الحقيقة البديهية، فقرّر نسج علاقة مباشرة وعلانية مع دولة إسرائيل استكمالاً لقراره فك علاقة مصر بالاتحاد السوفييتي ونقل البلاد إلى المعسكر الأمريكي. ذلك أنه كان يعلم أن محاولة نسج علاقات سرّية بين القاهرة وتل أبيب وإبقائها طيّ الكتمان مهمة تكاد تكون مستحيلة، إذ أن مصر دولة لا يمكن للحكم فيها أن يعقد مثل تلك العلاقات دون أن تتسرّب أخبارها إلى العلن وتتسبّب له بإحراج سياسي كبير. أما المملكة السعودية، فطبيعة الحكم فيها، وهو قائم أساساً على النفاق بشتى أشكاله، يسّرت الإبقاء على سرّية علاقتها بالدولة الصهيونية طيلة عقود. وقد نشأت تلك العلاقة بنتيجة المنطق البسيط المذكور أعلاه، عندما قرّرت الولايات المتحدة الاعتماد على إسرائيل حليفاً أساسياً لها في مواجهة صعود الحركة القومية العربية وتجذّرها بقيادة مصر الناصرية. حصل ذلك في منتصف الستينيات من القرن المنصرم، ولم يبدأ مع ولادة الدولة الصهيونية كما يعتقد الكثيرون الذين اعتادوا إلى مشهد العلاقة الاستراتيجية المميّزة بين أمريكا وإسرائيل ويجهلون أن تلك العلاقة لم تصبح ما باتت عليه سوى بعد ما يناهز العشرين عاماً من نشوء الدولة الصهيونية. وقد كانت هذه الأخيرة طيلة عشرين عاماً تعتمد في تمويلها وتسليحها على ألمانيا الغربية وفرنسا أكثر مما تعتمد على الولايات المتحدة. رعونة وليّ العهد الجديد وقناعته أنه معصوم وذو مناعة سياسية مطلقة، جعلتاه يذهب في العلاقة غير العلانية مع إسرائيل إلى أبعد ما ذهب إليه أي حاكم سعودي هذا وقد ندّدت واشنطن بالعدوان الثلاثي على مصر الذي تبع إعلان جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس في عام 1956، وأمرت الدول الثلاث ـ إسرائيل وبريطانيا وفرنسا ـ بالانسحاب من الأراضي المصرية. غير أن تصاعد النفوذ الناصري وتجذّر الحركة القومية العربية في الستينيات، بالرغم من انفراط عقد الوحدة بين مصر وسوريا في بداية الحقبة، أدّيا إلى تراجع خطير في حضور أمريكا الإقليمي، بما في ذلك اضطرار واشنطن إلى الانسحاب من قاعدتها الجوّية في الظهران. وضعفت بالتالي قدرة واشنطن على حماية مصالحها في المنطقة، ولاسيما حماية النظام الذي جسّد تلك المصالح بأعلى مستوياتها، ألا وهو النظام السعودي. لذا غدت إسرائيل حليفاً ثميناً لواشنطن، اعتمدت عليه «كلبَ حراسة» لمصالحها الإقليمية (كما كان القول شائعاً في زمن الناصرية). وكانت حرب عام 1967 أول حرب شنّتها الدولة الصهيونية بدعم أمريكي، وهي تستهدف عدوّي أمريكا والمملكة السعودية اللدودين، مصر عبد الناصر وسوريا صلاح جديد. وقد آتى العدوان الصهيوني ثماره بعد ثلاث سنوات، في عام 1970، عندما توفّي عبد الناصر وخلفه في رئاسة مصر أنور السادات وأطاح حافظ الأسد بحكم يسار البعث بقيادة صلاح جديد. فإن علاقة سرّية قامت بين المملكة السعودية والدولة الصهيونية منذ منتصف الستينيات، تولّاها في البداية عن الجانب السعودي كمال أدهم، مؤسس المخابرات العامة الـسعودية ورئيسها الأول، والمستشار الخاص للملك فيصل بن عبد العزيز. ولم يجرؤ أي من الرجال الذين تعاقبوا على العرش السعودي على الإجهار بالعلاقة بإسرائيل، خوفاً مما قد ينجم عن ذلك الأمر في تسعير العداء للحكم الملكي السعودي الذي تشكّل تبعيته لواشنطن مصدراً أساسياً للنقمة عليه. وقد بقي الأمر على حاله حتى تولّي محمد بن سلمان ولاية عهد أبيه رسمياً وإدارة شؤون المملكة فعلياً. فإن رعونة وليّ العهد الجديد وقناعته أنه معصوم وذو مناعة سياسية مطلقة، جعلتاه يذهب في العلاقة غير العلانية مع إسرائيل إلى أبعد ما ذهب إليه أي حاكم سعودي ويستعدّ في الوقت نفسه إلى الإجهار بتلك العلاقة حالما يستكمل الصهيوني جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إعداد المؤامرة على الشعب الفلسطيني التي يحوكها، وينتقل بها إلى حيّز التنفيذ. ومن غير الصدفة على الإطلاق أن نشهد تصعيداً في تبادل العلاقات المكشوفة بين حليفي المملكة السعودية الخليجيين، إمارة أبو ظبي وسلطنة عُمان، من جهة، والدولة الصهيونية من الجهة الأخرى، وفي هذا الوقت بالذات بينما يتعرّض وليّ العهد السعودي إلى حملة كثيفة يقودها الإعلام الأمريكي من أجل إزاحته من السلطة عقاباً على مسؤوليته عن مقتل جمال خاشقجي. فإن مصير محمد بن سلمان مرتهن حالياً بنجاح المسعى المحموم الذي يبذله كوشنر من أجل إنقاذه، والذي سبق أن أشرنا إليه على هذه الصفحات، ذلك المسعى الذي يسنده بحماس رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو. هذا وبتسريعه في وتيرة التطبيع الخليجي مع دولة إسرائيل، يريد وليّ العهد السعودي توكيد استعداده على الضلوع في المخطط الصهيوني وتحقيق غاية إدارة ترامب في إنشاء تحالف عربي ـ إسرائيلي مكشوف في مواجهة إيران. وهو يظنّ أنه كلّما زاد في تبيان استعداده في الخوض في تلك السياسة، زادت قيمته وفرادته في نظر كوشنر ونتنياهو وزاد بالتالي ضغطهما على ترامب كي يُبقيه في منصبه. كاتب وأكاديمي من لبنان  |
| تونس: الدستور هو الفيصل Posted: 13 Nov 2018 01:13 PM PST القضية ليست كلاما ولا شعارات، إنها ذهنية وممارسة. لهذا كان على التونسيين أن يعرفوا أن الحديث عن «دولة القانون والمؤسسات» و«علوية الدستور» وغير ذلك من كلام كثير آخر يفتخر بأن تونس الجديدة باتت مختلفة عن السابق إنما يحتاج إلى امتحان يضع كل ذلك على المحك. آخر هذه المحطات، وربما أهمها، هو حصول الوزراء الجدد الثلاثة عشر الذين عينهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد مع وكلاء الوزراء على الأصوات اللازمة في البرلمان لنيل الثقة رغم المعارضة التي أبداها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، قبل أن يعدّل موقفه، ورغم مقاطعة نواب حزب «نداء تونس» الذي ما زال رئيسه حافظ قايد السبسي، إبن الرئيس، يصر على مواصلة مناكفته للشاهد مع توالي نكساته فيها. من اختار التصويت ضد نيل الثقة فذاك حقه الذي لا ينازعه فيه أحد، إذ لا حاجة لإجماع شامل مغشوش ساد البلاد لعقود طويلة، أما من سارع للاعتراض على التعديل الوزاري في حد ذاته وعلى حق الشاهد في أن يقوم به فقد أصيبوا بضربة كبيرة. صحيح أن رئيس الجمهورية عدّل موقفه قبل جلسة التصويت لتجنب الظهور بمظهر الخاسر، لكن ابنه يبدو كمن أدمن تلقي الضربات حتى بعد ما ظن أنه حصّن موقفه باندماجه مع حزب آخر لا يقل رئيسه سليم الرياحي عنه إثارة للجدل. قد لا يعني ما سبق أن أولئك النواب الذين صوتوا لمنح الثقة للوزراء الجدد، أي أساسا نواب حركة «النهضة» و«الكتلة الوطنية» و«مشروع تونس»، إنما رضعوا مع حليب أمهاتهم قيم القبول بقواعد اللعبة الديمقراطية والاحتكام إلى المؤسسات لكنهم على الأقل أجادوا التعاطي مع ما ينص عليه الدستور فاستفادوا منه كما يجب إلى درجة الوصول إلى حكومة واسعة التمثيل لأغلب أحزاب البرلمان ومن بينهم وزراء من حزب «نداء تونس» تجاهلوا دعوة قايد السبسي الابن لترك مناصبهم الوزارية، وتلك لطمة أخرى لم تساهم مع ذلك في تركه الساحة التي أربكها بتشظي الحزب وهز مكانة والده رئيس الدولة الذي لم يحسن، رغم كل خبرته الطويلة، التعامل مع «ظاهرة إبنه المدلل». إن الدستور، الذي صيغ بعناية كبيرة ويعد الأكثر تحررا وتميزا في البلاد العربية، هو الملاذ وهو الخيط الناظم للحياة السياسية بمختلف تقلباتها يعتبر مكسبا للجميع المأمـّل الآن أن يتحول ما قاله الشاهد، الذي يـُــعتبر منح الثقة لوزرائه الجدد نجاحا باهرا له في وجه خصومه، من أن هذا التصويت هو «انتصار للديمقراطية وبرهان على أن حل الأزمات لا يكون إلا وفق الدستور»، أن يتحول إلى قناعة لدى الجميع وأولهم هو شخصيا بحيث يكون مستعدا دائما لأن يكون مرجعه الدستور في كل الحالات، لا فقط عندما يكون مناسبا لأشرعة سفنه، وكذلك شأن باقي الأطراف الشريكة في الحكومة. يجب أن يتحول ذلك كله إلى تقليد راسخ غير قابل للجدل. المأمّـــل كذلك، أن يكون ما جرى في الأسابيع القليلة الماضية بسبب التعديل الوزاري والجدل الذي صاحبه فرصة للتعجيل في حسم مسألة «المحكمة الدستورية» المعلق إلى حد الآن بسبب تجاذبات سياسية ذات صلة بأسماء القضاة المرشحين لعضويتها لأن مثل هذا الحسم هو الكفيل وحده بوضع حد مستقبلا لأي جدل متوقع بخصوص أي إشكال سياسي كبير. ذهب البعض في وصف التعديل الوزاري الأخير بأنه «انقلاب على نتائج الانتخابات الأخيرة» وذهب البعض الآخر إلى وصف الحكومة الجديدة بأنها ليست حكومة وحدة وطنية بل «خيانة وطنية»، وهؤلاء ليسوا أناسا عاديين أو كتابا متحاملين، إنهم نواب في البرلمان ولديهم من يشكل معهم كتلا برلمانية. لو كانت هناك محكمة دستورية لسارعت إلى قطع الشك باليقين ولجنبت رئيس الجمهورية وآخرين حرج الحديث في دائرة لا علاقة لها بالدستور والقانون، مع أن الشاهد لم يضيع فرصة الإشادة بالرئيس لتأكيده على أن «احترام الدستور والاحتكام إليه باعتباره المخرج الوحيد لأية أزمة في البلاد»، وهو التأكيد الذي سارع إليه قايد السبسي بعد الاستياء الذي خلفه في البداية إعلان المتحدثة باسم الرئاسة أنه غير موافق على التعديل. لقد تعرض الدستور التونسي في السابق إلى عبث كبير وصل حد تعديله عام 1975 ليصبح الراحل الحبيب بورقيبة «رئيسا مدى الحياة» ثم جاء من بعده زين العابدين بن علي ليتراجع عن المدتين الرئاسيتين كحد أقصى لأي رئيس ليضعها مفتوحة على مصراعيها ليصبح هو الآخر عمليا رئيسا مدى الحياة، مع أنه هو نفسه من كان عدّله بعد فترة قصيرة في بداية عهده 1987. رغم كل ما يجري الآن في تونس من مناكفات سياسية ومشاحنات أدت إلى مزيد عزوف الناس عن الشأن السياسي العام المتوتر، والسخيف أحيانا، فإن القبول في النهاية، عن حماسة أو مضض أو ضغينة، بأن الدستور، الذي صيغ بعناية كبيرة ويعد الأكثر تحررا وتميزا في البلاد العربية، هو الملاذ وهو الخيط الناظم للحياة السياسية بمختلف تقلباتها يعتبر مكسبا للجميع… لكن ذلك لا يكفي ولا بد من حث الخطى الآن لتشكيل المحكمة الدستورية لأن ما كل مرة تسلم الجرة. كاتب وإعلامي تونسي  |
| الأردن بين «الملا عمر» وخطف قنديل Posted: 13 Nov 2018 01:12 PM PST اطلاق اسم «الملا عمر» على رئيس الوزراء الأردني الدكتور عمر الرزاز بعد الاختطاف الهمجي لرئيس منظمة مؤمنون بلا حدود يونس قنديل لا يبدو منصفا بكل الاحوال وينطوي على مبالغة وتشدد في غير مكانه فلا الأردن اصلا أفغانستان ولن يكون، ولا الرزاز يستحق هذه التسمية من باب النقد لأن وزيرا في فريقه قرر إحتواء فتنة مفترضة وإجتهد في قرار. يساريون ومدنيون وليبراليون وكل فرد يخاصم الإسلاميين لأي سبب اندفعوا معا في وصلة جماعية تطلق هذا الوصف على سياسي مثقف وليبرالي ورفيق سابق لهم لأن وزير داخليته قرر منع ندوة تريد أن تستعرض جلسات جريئة حول سرديات الإسلام من بينها واحدة كفيلة لو انعقدت بنفس الاسم بإحداث اضطراب أمني واجتماعي وتحت عنوان «ميلاد الله». مع تأييدي طبعا لحق وحرية التفكير والمؤتمرات لابد من تذكير كوادر حفلة اللوم لرئيس الحكومة هنا أنه رئيس وزراء لكل الأردنيين وعليهم. بين هؤلاء..المتشدد والساذج والمتطرف والشرير والأزعر والسطحي والعميق والعلمي والجاهل والموتور. يساريون وملحدون وعلمانيون… الدكتور عمر الرزاز يترأس حكومة تمثل الجميع او تتصرف بإسم الولاية على كل الشرائح بكل ما فيها من تناقض وتصارع وخلاف وتباين. لدي كغيري عشرات الملاحظات على أداء الرزاز وحكومته. لكن ليس من بينها الادعاء أنه يمثلني أنا وفقط فحكومته تتحدث مع الجميع وتراعي مصالح كل الناس. وعلى كل من يريدون من الرزاز وفريقه «التحدث فقط باسمهم» ودون غيرهم تنشيط الذاكرة والتيقن من أنهم ليسوا وحدهم في الوطن والمجتمع والناس وأنه يوجد غيرهم كثيرون وان الرزاز لم يصبح رئيسا للحكومة لأنه علماني او ليبرالي بل لأنه إداري يفترض به النزاهة وعليه أن يقدم حلولا للجميع. قد تكون واحدة من مشكلات الزملاء والاصدقاء من نشطاء التيار العلماني الذين أجلهم وأحترمهم أنهم يتصرفون بأفكارهم ـ وهذا حقهم ـ على أساس أنهم وحدهم في المجتمع وان واجبهم الوطني التنويري التصدي لكل من يعارضهم او لديه وجهة نظر أخرى. الرزاز لم يصبح رئيسا للحكومة لأنه علماني أو ليبرالي بل لأنه إداري يفترض به النزاهة وعليه أن يقدم حلولا للجميع نفس المنطق هو الذي يحكم اصلا المتشدد والأصولي وفي بعض الاحيان الإرهابي. ونفس المنطق الذي دفع ثلة مجرمين لإختطاف ثم ضرب وتعذيب المثقف يونس قنديل هو ذاته الذي نلمسه وبصراحة في بعض الاحيان عند بعض العلمانيين حيث إنكار للآخر والسعي لعدم وجوده بصورة جذرية والحرص على مضايقته والمزاودة عليه وإتهامه بالجهل…تماما هي نفس محركات الفعل عند كل من يرفضون الآخر ايضا باسم الإسلام ويعتبرون أنفسهم «ظل الله وخليفته في الأرض». التشدد مرفوض ومقيت سواء اكان دينيا ام علمانيا فالمتشددون هنا ليس لديهم اي استعداد حقيقي للحوار والتشارك ويرفضون من يقابلهم. وعليه لابد من تذكير من يحاولون مضايقة الرزاز ويطلقون عليه اسم «الملا عمر» أنهم يبالغون وبشطط في الوصف وينكرون الوقائع ويطالبون الرجل اصلا بالتصرف وفقا لانحيازاته الفكرية الشخصية التي لا تناسب من يتولى الولاية العامة. أشعر بالقهر والانزعاج كأي أردني شريف من الحالة التي توحي لأشخاص بصرف النظر عن هويتهم أنهم يستطيعون التصرف بدلا من ذراع القانون فيختطفون كاتبا ويعذبونه ويحفرون بالسكين على لحمه لأنه حاول الاجتهاد وتنظيم ندوة كان بإمكانهم محاورتها او ملاعبتها فكريا. ولدي رأي مرجح بحكم الخبرة أن التصرفات التي استعملت في تعذيب الكاتب الزميل يونس قنديل لا تنتمي للإسلام بشيء وليست منه…استعمال ولاعة وحفر على اللحم وحرق جلد وتحطيم عظام واستعمال شفرة حلاقة..كلها أدوات ووسائل زعران وبلطجية وموزعي مخدرات ولا علاقة لها بأي جماعة اسلامية منظمة محترمة سواء في المجتمع أوفي البنية الحزبية. طبعا جريمة الاعتداء على قنديل وحشية ومقيتة ومن المعيب ان يسكت عليها المجتمع الأردني. لكن وبكل صراحة وموضوعية، الإخوان المسلمون ونوابهم في البرلمان لا يمكن لومهم او اتهامهم بالتحريض هنا فقد انسجم القوم مع انفسهم وأدبياتهم وإتصلوا بوزير مسؤول مطالبين بمنع ندوة لا تناسبهم أختيرت لها عناوين في غاية الاثارة والسعي لصناعة ضجيج. لا تلام الشخصية العامة على سلوك ينسجم مع ادبياتها ومن غير المنصف أن تتحمل مسؤولية ما يفعله زعران وأشقياء وأشرار سواء حملوا لواء الإسلام او لديهم أسباب أخرى. لا يمكن تأييد منع انعقاد اي ندوة وفي اي وقت بقرار من وزارة داخلية. ولا يمكن تفهم الجريمة البشعة التي تعرض لها الزميل قنديل خصوصا انه ورفاقه في المنظمة المعنية لم تتح لهم فرصة الشرح والتوضيح. بالمقابل من الصعب قبول القاء الإتهامات جزافا سواء على رئيس الوزراء او على وزير الداخلية او حتى على مثقفة برلمانية اسلامية (ديمة طهبوب) ارتابت بالندوة ورفضت انعقادها وتصرفت بصورة دستورية عندما ابلغت وزارة الداخلية بالأمر. مقلق جدا أن ينحط التفاعل الفكري إلى مستوى شفرة حلافة وولاعة والكتابة على لحم يحترق وان يعتقد اسلاميون وعلمانيون انهم فقط يملكون الحقيقة والحق. اختيار «عناوين مثيرة للضجة ومستفزة» لندوة يفترض أنها علمية وفلسفية وبصيغة تأزيمية ثم إدعاء التغافل والجهل سلوك مقلق ايضا بالمقابل وقد ينطوي على عدة شبهات وإن كان لا يبرر في النتيجة الجرائم. إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»  |
| موريتانيا 2019: رهان الدولة ومعركة الغاز Posted: 13 Nov 2018 01:11 PM PST «دليل الاستبداد والمستبدين» كتاب لمؤلفيه الأمريكيين أستاذي العلوم السياسية بروس بينودومسغيتا وإلستير سميث، يرسم لوحة فريدة لتراجيديا الشعوب العربية تحت ظلال أنظمة مركبة من مختلف ألوان الفساد السياسي والاقتصادي، يتنقل الكتاب بقرائه بين مراحل عشر تكاد تكون شموسا حتمية الشروق الواحدة تلو الأخرى عند كل فجر، قبل أن يحل أوان اليوم الموعود، فتطلع من المغرب ليغلق باب التوبة لهذا النظام أو ذاك، إما بانقلاب عسكري أو بثورة شعبية أو بتمرد اجتماعي، فتخرج الطفيليات التي تغذت طويلا على دماء الشعوب، من خلال استبداد الأنظمة بسيمفونيتها الشهيرة.. « مات الجنرال عاش الجنرال!». وليست موريتانيا المنتبذ القصي للعرب، ونقطة الوصل في المغرب الكبير بين المحيط العربي والإفريقي سوى تأكيد لصحة محتويات ما جاء في دليل الاستبداد والمستبدين. فبعد القواعد العامة للسياسة العقلانية التي قل ما يفقهها حكام القصر الرمادي في نواكشوط تأتي فصول: ـ الوصول إلى الحكم: وهي المرحلة التي دشنها النظام الحالي بأول انقلاب عسكري فريد من نوعه، من حيث كونه أجهض أول تجربة ديمقراطية في موريتانيا والإقليم عن طريق الانقلاب على أول رئيس منتخب ديمقراطيا سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله. ـ البقاء في السلطة: وهو الفصل الثاني الذي رسمته في موريتانيا سياسات النظام التي ارتكزت على القمع المفرط لكل دعاة الحق المدني، كما حصل ومازال يحصل مع الطلاب ومع الحقوقيين، ومع حل مجلس الشيوخ المعطل لتمرير قوانين الحاكم الفرد وسجن البرلمانيين المنتخبين شعبيا، وتزوير الانتخابات والتضييق على المعارضين في أرزاقهم، وصولا إلى محاولات خرق الدستور لأجل مأمورية ثالثة ترفضها معادلات الداخل وتعترض عليها أصوات الخارج والشركاء الدوليين. ـ الحصول على الأموال وإنفاقها: ولا أدل على ذلك من تصريحات الرئيس عزيز منذ وصوله إلى الحكم باستحداث طبقة رجال أعمال جدد، ظهروا ما بين غمضة عين وانتباهتها، لا أحد يعرف مصادر ثرواتهم، ولا من أين حصلوا عليها أو كيف؟ شركات كانت تعمل كمحرك للاقتصاد منذ استقلال الدولة، أفلست بسبب الفساد ومنافسة شركات العائلة والمسؤولين والوزراء والحاشية، كما حصل مع سونيمكس وأنير وأطنان الذهب التي كانت تنقل في طائرات خاصة إلى القصر الرئاسي، كما يوشك أن يحصل مع عملاق المناجم وعمود الاقتصاد الموريتاني شركة أسنيم. أما بقية الفصول المتتالية «الفساد والتمكين»، «المعونات الخارجية» و»الشعوب والحالات الثورية» فتختصرها كلها حقائق وأرقام صادرة عن أعلى الجهات الدولية المختصة، كون نسبة الدين العام في موريتانيا قاربت حد 100% وكون البنية التحتية هي الأسوأ في العالم في موريتانيا، كما جاء في تقارير التنافسية الدولية والبنك الدولي والأمم المتحدة، ومن تدجين جيل كامل من الشباب وإفقار والقضاء على الطبقة الوسطى، كي لا يبقى متنفس يسمح للناس بالتفكير في الخروج من عمق هذا النفق المظلم. أما الفصل ما قبل الأخير وهو بعنوان «الحرب والسلام والنظام العالمي» فيجد لنفسه مكانا فسيحا في محاولات النظام ومنظومة الاستبداد الحاكمة تسويق نفسها للغرب المخوف من غول الإرهاب والمكتوي حديثا بنيرانه في باريس وبرلين ولندن، كدرع واق هو الوحيد القادر على حمايتهم من جحيم الإرهاب، وصد لهيب نيرانه عنهم، قبل أن تصل إلى حدودهم مقبلة من مالي وتشاد والنيجر. من قلب هذه التراجيديا المأساوية التي يقبع تحت نيرها شعب طيب وأصيل، تخرج معضلة أخرى بدأت تلفت أنظار العالم تنذر بمعركة مستقبلية للسيطرة على منابع ثروات الغاز المكتشفة حديثا في الساحل البحري الموريتاني، ثروات تقدر كتلك التي لدى قطر وروسيا. هذه المعركة التي توشك أن تندلع في هذا المنتبذ القصي بين الدول العظمى والرعاة الدوليين لدول هذا الركن من العالم، ترسم ملامح التحالفات السياسية الدولية، التي ستكون مؤثرة على نتائج رهانات الموريتانيين على بناء دولتهم، والسعي إلى تناوب سلمي على السلطة في أفق 2019، ولكنها في الوقت ذاته أيضا تفتح شهية منظومة الاستبداد الحاكم لعدم مغادرة السلطة، أيا كانت الوسائل المستخدمة في سبيل ذلك، شرعية كانت أم غير شرعية، وتطرح في أذهانهم السؤال التالي.. ما العمل؟ معضلة تلفت أنظار العالم تنذر بمعركة مستقبلية للسيطرة على منابع ثروات الغاز المكتشفة حديثا في الساحل البحري الموريتاني ما العمل؟ هو العنوان العاشر والأخير لآخر فصول كتاب «دليل الاستبداد والمستبدين» وهو السؤال الذي يؤرق الرئيس الحالي ليل نهار. ما العمل؟ ترك السلطة أو البقاء فيها؟ خياران أحلاهما مر، خياران لكل منهما ثمن كبير وفادح يتراوح بين المغامرة بمحاولة البقاء التي قد تنتج ربيعا عربيا يعصف بكل المكتسبات المالية والسلطوية للنظام، أو المغادرة وترك ثروة الغاز والخروج من حيز الحماية التي توفرها السلطة، فتنتج عن ذلك ملاحقات قانونية ومتابعات جنائية وارتدادات عداوات، لا حصر لها، صنعها هذا النظام ورئيسه محليا وإقليميا ودوليا. وفي محاولة للإجابة على سؤال الفصل الأخير لن يجد الباحث والمواطن البسيط سوى طريق آمنة وحيدة، وهي تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة وترك العبث بمصير ورهانات وآمال شعب بكامله يتطلع إلى التغيير، وترشيح الأصلح وهو الأمر الذي قد يلعب فيه الجنرال غزواني وزير الدفاع الحالي والقائد السابق لأركان الجيش دورا محوريا، باعتباره الوحيد في منظومة الاستبداد الذي لم تتلطخ يداه بأدرانها، ولم يدخل في صلب تلك العداوات التي أبدع النظام الحالي في صنعها وباعتباره عسكريا يشكل نوعا من الإجماع بين الموالات والمعارضة ومزيجا من العسكري البحت والمدني المتعلم. ولكن حتى هذه الفرضية الأخيرة القاضية بسلوك طريق آمن وتنظيم مسار انتخابي نزيه وترشيح الأصلح لا تزال تتعرض لعواصف الدولة العميقة، ومحاولات منظومة الاستبداد التمسك بالسلطة. «الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كان، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة. تواسي فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين الأمة فتقول كما جاء في كتاب «طبائع الاستبداد»: «يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنّا في أوطاننا، واكشف عنّا البلاء، أنت حسبنا ونعم الوكيل» لك الله يا وطني! صحافي وكاتب مقيم في باريس  |
| مهدي السودان: عن البعد الاجتماعي المنسي Posted: 13 Nov 2018 01:10 PM PST كان الشيخ عووضة الذي عاش في حوالي القرن الثامن عشر الميلادي يبيع السنة من العمر بقرش والسنتين بقرشين والمئة سنة بمئة قرش، كما كان يبيع أسرار الغيب للعامة والخاصة، ويمتلك ما عرف بلغة «كن فيكون»، أي القدرة على فعل كل شيء مهما كان صعباً أو بدا للآخرين مستحيلاً. وردت هذه التفاصيل التي تبدو اليوم أشبه بقصص الخيال الأسطورية في الكتاب الذي اشتهر باسم (طبقات ود ضيف الله)، نسبة لاسم صاحبه محمد النور بن ضيف الله الذي أراد أن يقوم بالتوثيق لأهم الشخصيات التي عاشت في عصر مملكة الفونج، التي حكمت أجزاء واسعة من السودان الحالي (1505-1821). أظهر ضيف الله اهتماماً مكثفاً بقصص الأولياء وشيوخ التصوف، حيث نقل كثيراً مما كان يتداوله العامة عنهم حينها كقصة الشيخ عووضة المشار إليها أعلاه وغيرها من القصص الأخرى عن الولي الذي يحيي الموتى أو الآخر الذي كان يمتلك القدرة على تحويل الأنثى لذكر، أو منح العقيم ولداً، أو غيرها مما يتم سرده بتفصيل لا يخلو من طرافة وتشويق. على ما فيه من مبالغات واضحة، يقدم كتاب الطبقات هذا لمحات مهمة عن الجو الاجتماعي الذي كان سائداً في بلاد الفونج وقتها، والذي كان فيه التصوف بشكله المقترن بالخرافات والبدع والتصورات الغيبية يشكل حجر الأساس فيه. بدا الأمر وكأنه امتزاج بين عقيدة التوحيد الإسلامية المؤسسة لمملكة الفونج، والعقائد الإفريقية الأخرى التي كانت ما تزال متجذرة في الوعي الجمعي للناس بركائزها المبنية على الطوطمية أو على تعميق أثر الوسائط بين الخالق والمخلوق على اعتبار أنه لا يمكن بدون هذه «الزلفى» أن يصل صوت الإنسان البسيط لخالقه. الصورة الاجتماعية في القرن التاسع عشر لم تتغير كثيراً عما كان قد وصفه «ضيف الله». كانت طبقة الأولياء الصالحين قد بدأت تأخذ حظها في التركيبة الاجتماعية، بفضل الاحترام الذي كان يمتزج في كثير من الأحيان بالتقديس المتغذي على السرديات، التي تضخم من قدرة هذا الولي أو ذاك على الإتيان بما لم تستطعه الأوائل. كان لكل ذلك أبلغ الأثر في نجاح الدعوة التي قام بها محمد أحمد، الذي سيعرف لاحقاً بالإمام المهدي. الفكرة الساحرة لوجود مخلّص مرسل من السماء إلى الأرض ومتمتع بالبركة وبالقدرات الفائقة، وجدت رواجاً سريعاً ما كان يمكن لها أن تجده لولا أنها وجدت في ذلك المكان في ذلك الوقت. هنا نلاحظ أن محمد أحمد بدا هو نفسه مقتنعاً ومؤمناً بشكل لا يقبل الجدل بكونه المهدي المنتظر، الذي حكت عنه كتب التراث، والذي ستكون له أدوار سياسية بنقل الناس من حياة الظلم والفجور، إلى دولة الإيمان الصادق. لاحقاً ستبدأ عقيدة جديدة بالتشكل لا يكون المرء بموجبها مسلماَ مكتملاً، إذا آمن بالنبي محمد، عليه السلام، ولم يؤمن بالمهدي، الذي يمثل المرحلة ما بعد الأخيرة للرسالة المحمدية. سوف يكون لهذه النقطة الأخيرة المتعلقة بإعادة تعريف معنى المؤمنين، آثار كثيرة اجتماعية وسياسية، فهي التي ستدفع بالمهدويين، رغم وضعهم السياسي الحساس، وما كانوا يواجهونه من تحديات، للدخول في صراعات كانوا في غنى عنها مع بعض القيادات الدينية غير المؤمنة بالمهدية، ومع بعض شيوخ القبائل ورجال الممالك الإسلامية الأخرى المجاورة، وهو ما سيكون أحد أو أهم الأسباب التي ستؤدي لتشتيت الجهود وإضعاف الجبهة الداخلية والتشويش على مبدأ «العدو المشترك» الاستراتيجي، الذي يلزم السياسي بالدخول في مصالحات وتحالفات مع بعض الجهات التي قد لا يكون بالضرورة متفقاً معها بشكل كامل. من الناحية الأخرى فإن الآلاف الذين اتبعوا المهدي كان معظمهم مؤمنين به إيماناً روحياً لا يتزعزع. كانوا مؤمنين بقدرته على التواصل الروحي، وأنه كانت تصله في اليقظة والمنام إشارات هي أقرب للوحي الذي يقوده نحو النصر والتمكين. تعزز هذا الإيمان أكثر مع الانتصارات الأولى التي تحققت لجيشه، الذي كان أقل عدة وعتاداً مقارنة بالجيوش التي واجهها، والتي كانت تحاول رد مناطق نفوذه لحدود الحكم التركي المصري، الذي كانت تسيطر عليه بريطانيا. بعد سقوط الخرطوم وإعلان دولة المهدي تحولت الدروشة الجمعية إلى «دروشة سياسية» هذه الحالة من «الدروشة الجمعية» ذات التأثيرات السياسية لم تقتصر على بلاد السودان، بل هي موجودة في معظم المجتمعات، التي لم تترسخ فيها عقيدة التوحيد. نجدها داخل العمق الإفريقي، حيث التجاذب المستمر مع العقائد المحلية، كما نجدها في مناطق أخرى كالهند مثلاً، التي ازدهرت فيها دعوات وإدعاءات ما تزال آثارها باقية حتى اليوم، كالقاديانية التي ظهرت إبان الاحتلال البريطاني، والتي كان صاحبها أحمد القادياني في بداياته يدّعي أيضاً، للمفارقة، أنه المهدي المنتظر، الذي يجب أن يجتمع المسلمون حوله، قبل أن يطور تعاليمه التي ستصبح لاحقاً أقرب للدين الجديد الذي هو مزيج من الأجواء الروحية الهندية وبعض تعاليم الإسلام، إضافة إلى الإعجاب المثير للجدل ليس فقط بالنفس، لدرجة ادعاء النبوة ولكن، للغرابة، بالإنكليز أنفسهم الذين كان يراهم القادياني أصحاب فضل على بلده. رغم التشابه في الظروف الاجتماعية بين كل من مهدي السودان وقادياني الهند وولادة كليهما تحت الاحتلال، إلا أن مسار كل منهما كان مختلفاً عن الآخر، حيث اختار الأول طريق الجهاد، في حين اختار الثاني طريق المصالحة مع المحتل، بل وتحريم الجهاد. هذا هو سبب تحالف القوى الاستعمارية للقضاء على المهدي، في الوقت الذي سيتم فيه التعامل مع قادياني الهند بشكل فيه الكثير من التشجيع والرعاية التي ستؤدي إلى انتشار دعوته، لاسيما وأنه ظهر في وقت مفصلي من تاريخ الاحتلال، اشتهر بالثورات المتصلة وحركات مقاومة كادت أن تؤدي لخروج بريطانيا من الهند. مثّل المسلمون جزءاً كبيراً من ذلك الحراك متكئين على الروح الثورية الدينية، والامتزاج بين العقيدة وقيم الجهاد ومكافحة المحتلين، وهو ما لعب عليه القادياني مقدماً خدمة كبيرة للبريطانيين، الذين كان يعلن محبتهم ويبالغ في إظهار ولائه لهم. بعد سقوط الخرطوم وإعلان دولة المهدي تحولت تلك الدروشة الجمعية إلى «دروشة سياسية». المصطلح سيطلق لاحقاً على عدد من التجارب الإسلامية في النطاق السياسي، وهي التجارب التي ستفاجأ بأن التنظير لبناء الدولة بموازناتها الداخلية المعقدة وبعلاقاتها الخارجية الأكثر تعقيداً هو شيء مختلف تماماً وتجربة منفصلة عما خبروه من مجرد حشد الأتباع أو إلقاء الخطب الحماسية أو المسجدية لجمع الأنصار والمتعاطفين. كانت الحالة المهدوية مثالاً مبكراً على ذلك، فقد عاشت الدولة في عمرها القصير الذي لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً حالات مختلفة من الصراعات والفشل الاقتصادي والسياسي، الذي كان من مظاهره المسارعة لمعاداة الجوار، بما فيه الأقاليم والشخصيات التي كانت تتشارك مع المهدويين الرؤية ذاتها المتعلقة بمحاربة الاستعمار وإقامة دولة على ضوء الشريعة. لا يفهم من ذلك أن الدروشة السياسية محصورة في الحركات ذات الخلفية الإسلامية، فقد أظهرت حركات يسارية وشيوعية في مراحل مختلفة، سلوكاً لا يخلو من دروشة، كما لا يفهم من هذا السرد أن العامل الاجتماعي محصور فقط في مسألة التدين الشعبي، ولكن المقصود هو أن هذا كان العامل الأقوى أثراً والأكثر حسماً في مرحلتي صعود وأفول المهدية على حد سواء. كاتب سوداني  |
| إرهاب العشائر في العراق Posted: 13 Nov 2018 01:09 PM PST وجه مجلس القضاء الأعلى، يوم الخميس 8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بالتعامل مع قضايا ما يعرف بـ»الدكات العشائرية» وفق قانون مكافحة الاٍرهاب. وقال المجلس في بيان صحافي رسمي، إنه «يعتبر جرائم التهديد عبر ما يعرف بـ(الدگات العشائرية) صورة من صور التهديد الإرهابي، وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الاٍرهاب». موجهاً بـ»التعامل مع هذه القضايا وفق القانون المذكور». إذ تشهد عدة أحياء في بغداد والمحافظات تنامي المظاهر العشائرية المسلحة، وصولا إلى معارك بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة داخل الأحياء السكنية، وتسبب بسقوط العديد من الأبرياء ضحايا نتيجة كثافة الرمي بمختلف الأسلحة في هذه الاشتباكات، ما مثل تهديدا لحالة الاستقرار الأمني الهش الذي تتمتع به مدن العراق. «الدگة» العشائرية مظهر مسلح خطير، يقع عادة بعد حدوث مشكلة بين عشيرتين، إذ تلجأ العشيرة الأولى إلى اشعار العشيرة الخصم عبر تهديدها بمظاهرة مسلحة، وتكون عادة بقدوم عدد من المسلحين وإطلاق النار على بيت الخصم بشكل كثيف بغية إخافتهم، بشرط عدم قتل أو جرح أحد من ساكني البيت، لتكون العشيرة المهددة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاعتراف بالخطأ وجلب وفد للتفاوض وحل المشكلة عبر ما يعرف بالفصل أو الدية العشائرية، وهو دفع مبالغ مالية، أو مواد عينية، وقد يصل الامر في بعض الاحيان إلى اعتبار النساء جزءا من الفصل العشائري، أو اللجوء إلى الخيار الثاني، وهو التجهز للقتال الذي سيبدأ وفقا لضوابط النزاعات العشائرية المتعارف عليها. العشيرة، وكما هو معلوم، بناء اجتماعي أساسي في مجتمعات ما قبل الحداثة، ومن الطبيعي أن تكون لها سطوتها في المجتمع الريفي أو البدوي في العراق حينذاك، كما كان الأمر متماشيا مع ظروف العمل في مجتمعات ما قبل الحداثة التي تشمل النشاطين الزراعي أو الرعوي بشكل رئيس. وكان بإمكان السنن والاعراف العشائرية أن تحل المشاكل البسيطة التي تواجه مجتمع بسيط وغير معقد، ومن ناحية أخرى لم تكن سيطرة أجهزة الضبط في الدولة، كالشرطة والمحاكم والسجون تمتلك القوة والكفاءة الكافية التي تمكنها من توفير شروط الحياة الامنة للمواطن في تلك المجتمعات. لذلك لعبت العشيرة دور الحصن الذي يحمي أفرادها من هجوم الأعداء، كما يضمن نظام تكافل اجتماعي صارم على كل فرد من أفرادها في حالات الكوارث الطبيعية أو الحروب أو المجاعات والأوبئة. لكن مع تغير المجتمع العراقي، وتحوله نحو أنماط الحداثة في الحياة منذ حوالي قرن من الزمان، أصبح وجود نسق العيش العشائري في المدن حالة غريبة مرفوضة، لكن لم يتم التخلص منها بشكل تام. المتابع للمجتمع العراقي يعرف جيدا أن العشائرية، كنمط عيش، كانت قد وصلت أدنى مستوياتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأدى زحف الحداثة المتنامي الذي وصل حتى الأرياف، إلى تراجع نمط العيش تحت ظل العشيرة، وبات التعلق بسننها ونواهيها وضوابطها من الأمور التي تحسب على التخلف. لكن هذا لا يعني إنكار وجود هامش كبير نسبيا من أنماط السلوك التقليدي، أو المحافظ في العراق، إلا أن ذلك يمكن أن يعزى إلى عدة أسباب وليس للعشائرية فقط، ومنها نمط السلوك الديني في مجتمع محافظ كالمجتمع العراقي، وإيقاع التغيير الذي تباطأ لأسباب سياسية أو اقتصادية عديدة، ومع ذلك كان الأمر يبدو وكأنه، بخطه العام، سائر باتجاه انحسار السلوك العشائري والتوجه بقوة نحو المدينية والحداثة. تحول بنى عشائرية عراقية إلى نمط من مافيات الفساد المتحالفة مع المليشيات والإرهاب والأحزاب ورجال الدين الفاسدين العيش في المدن، وحتى في الارياف التي تتواجد بقرب المدن، لتقدم خدماتها للمدينة، يفرض نمط حياة قائما على الفردية والاعتماد على النفس، ويشمل ذلك الرضوخ للمنظومة القانونية التي تتعامل مع العقوبات بشكل فردي في حالة الخطأ، كما تتعامل من ناحية أخرى مع المكاسب والمكافآت على أسس فردية في حالة النجاح. بينما يتطلب العيش في ظل قيم العشيرة التعامل مع نمط حياتي معاكس لذلك تماما، إذ تختفي قيمة الفرد مقابل سيادة قيم الجماعة، التي هي العشيرة، لتعم منظومة العقوبات المجموع نتيجة خطأ فرد واحد، وقد يقود ذلك إلى حرب ضروس تدافع فيها العشيرة عن أحد أفرادها، وهذا أمر طبيعي وكثير الحدوث، كما أن ريع الإنتاج ومكاسب المعارك يتوزع على الجميع. فهل توجد إمكانية للعيش بهذه الطريقة في مدننا اليوم؟ وهنا لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة في موضوع القيم العشائرية ونوعها ونمط العشائر الموجودة في مدننا اليوم. فقد يحلو للبعض القول إن المجتمع العراقي بطبعه مجتمع عشائري، واعتبار هذه المسألة من المسلمات، لكن الحقيقة أن هذا الامر من الخرافات الاجتماعية التي يحاول البعض ترسيخها، فعشائر بداية القرن العشرين التي كانت تعيش ظروفها التاريخية الطبيعة، تختلف بشكل كلي عن عشائر نهاية القرن العشرين التي نفخت فيها الروح، بعد أن كادت تنتهي كظاهرة اجتماعية، وقد حدث ذلك لأسباب سياسية. الذي حدث أن نظام صدام حسين في التسعينيات، وبعد خروجه مدحورا من الكويت، وبجيش مدمر بسبب الانتفاضة الشعبية، التي سلبت ثلثي مدن العراق من سيطرة حكومة بغداد، أحس بالحاجة إلى نفخ الروح بهياكل اجتماعية تكاد تختفي من المجتمع. كما فرض النظام تماسكه بفضل تحويل نظام الحكم من سيطرة الحزب الواحد إلى نمط من السيطرة العشائرية على الحكم، لعبت فيه عشيرة الرئيس والعشائر القريبة منها الدور المحوري في الإمساك بزمام الحكم، لذلك سعى النظام لدعم العشائرية لتساعده في استعادة سيطرة قبضته الحديدية على المجتمع، بعد أن تراخت ووهنت بسبب العوامل المذكورة، وبشكل خاص في مجتمعات المدن البعيدة عن العاصمة، التي لا تستطيع الدولة السيطرة عليها، فولدت حينها ظاهرة عرفت بـ»شيوخ ام المعارك» أو «شيوخ التسعينيات»، وهي مشيخات قبلية غير حقيقية، ولا جذور تاريخية لها، دعمها النظام بالمال والسلاح، مقابل أن تلعب دور السوط الذي يجلد به نظام الحكم رعاياها القبليين المغلوبين على امرهم المتضورين جوعا بسبب العقوبات الاقتصادية. تنامت ظاهرة العشائرية المزيفة وتغولت بعد سقوط النظام، فقد تحركت زعامات كارتونية في مجتمع انهكته الحروب والحصار، لتشكل هياكل وهمية بأسماء من قبيل «تجمع قبائل مدينة بغداد»، أو «اتحاد قبائل الفرات»، أو «إمارة قبائل..»، لتقدم نفسها لإدارة بول بريمر بحثا عن الدعم المالي والنفوذ السياسي، في ظل مجلس الحكم الذي حظي بعضويته، عدد من هؤلاء الزعماء العشائريين. وبجهود بعض الكتاب الانتهازيين الذين كتبوا التقارير الوهمية التي ادعت أن القبيلة نمط من انماط مؤسسات المجتمع المدني، التي تمثل هياكل اجتماعية منوط بها أن تلعب دورا وسيطا بين الدولة والمجتمع. وكل ذلك عار من الصحة العلمية طبعا، وهو عبارة عن خلط ولغو غير علمي. ان «عشائر المدن» في عراق اليوم اصبحت ذات سلوك هجين، وقد ضيعت جميع (المشيات)، فلا هي عشائر تقليدية تتبع سلوكا محافظا متمثلا بقيم الشرف والحمية والعفة والاستقامة وما تمثله من قيم تفخر بها العشيرة التقليدية، ولا تغيرت اجتماعيا أو حلت نفسها وتحولت إلى تجمعات مدينية، من قبيل المنظمات أو التجمعات النقابية التي تدافع عن منتسبيها، وفق شروط المجتمع المدني، إنما هي عبارة عن تجمعات قائمة في الأعم الاغلب على الاستغلال ونشر الفساد والدخول في صفقات مشبوهة في مجالات التهريب والإجرام والإرهاب وتجارة المخدرات وتجارة السلاح، ورؤوس هذه التجمعات العشائرية اليوم يلعبون على كل الحبال، السياسية والاقتصادية والدينية، وغايتهم القصوى جني أقصى ما يمكن من أموال السحت الحرام التي تتسرب لشراء قصور وفلل وإقامة حفلات ماجنة في دبي واسطنبول وعمان وطهران وبيروت، وبالتأكيد سترمى بعض فتات الارباح للاتباع الذين نخر وعيهم نتيجة التجهيل والفقر ونمط التدين المنغلق، الذي يعتاش على الطائفية. لقد تحولت بنى عشائرية اليوم إلى نمط من مافيات الفساد المتحالفة مع المليشيات والارهاب والاحزاب ورجال الدين الفاسدين، وأصبح لديهم السطوة والقوة المسلحة، ما يستوجب امتلاك الدولة للقوة والقدرة والحزم للوقوف بوجه هذه الكارثة. وربما مثّل تفعيل القانون من قبل القضاء ضوءا أخضر لبدء العمل على معالجة هذا المرض العضال الذي ينهش المجتمع، لكن يبقى الدور الأكبر من المسؤولية ملقى على عاتق السلطة التنفيذية التي يجب أن تقف بحزم بوجه هذه الظاهرة، فهل تستطيع ذلك؟ كاتب عراقي  |
| عيون اليهود: على تونس أم على إسرائيل ؟ Posted: 13 Nov 2018 01:09 PM PST قد يلوح السؤال اليوم وفي خضم الصراع السياسي المحتدم في تونس مبهما وغريبا بعض الشيء، وقد يراه البعض ربما بعيدا عن الواقع وغير منطقي بالمرة. لكن من باستطاعته أن يجزم بأن الأقلية اليهودية في ذلك البلد العربي لن تحلم أو تطمح أبدا في الوصول، إن لم يكن العام المقبل ففي العقود القليلة التي تليه إلى سدة الرئاسة، أو في أن يكون لها تأثير ونفوذ أكبر في اختيار شخص الرئيس، رغم أنها تعلم علم اليقين بأن هناك أكثر من عقبة قانونية ونفسية واجتماعية قد تحول دونها وتحقيق تلك الرغبة، ليس أقلها ما نص عليه الفصل الرابع والسبعون من الدستور التونسي الحالي، من أن الترشح للرئاسة حق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة على أن يكون دينه الإسلام؟ ألن يكون ذلك جائزا وممكنا رغم كل شيء وتعبد بعض الخطوات القليلة التي قطعها اليهود في تثبيت أقدامهم في المشهد السياسي، على ضعفها ورمزيتها، الطريق لطموحات أوسع مستقبلا، بالتربع على كرسي قرطاج؟ الواقع أننا إن نظرنا لذلك الدستور بالذات فسوف نجد أنه باستثناء الفصلين الاول والثاني، اللذين يشددان على أن تونس دولة «حرة مستقلة ذات سيادة، الاسلام دينها والعربية لغتها»، وعلى أنها دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون، وأنه لا يجوز تعديلهما، فإن باقي الفصول تقبل الحذف والتعديل، بما لا يتعارض بالطبع مع طبيعة الدولة وحقوق التونسيين. وإن تأملنا مقابل ذلك أيضا الأفق السياسي للخطوة الاخيرة، التي لم تكن بأي حال الأولى من نوعها في تونس وهي، تعيين يهودي في منصب وزير للسياحة، فسنرى أن الأمر يبقى بالأساس رهنا بالتوازنات السياسية الداخلية، قبل أي اعتبار آخر. وبهذا المعنى فإن وصول رجل الأعمال اليهودي رينيه الطرابلسي لذلك المنصب قد يكون مقدمة لما هو أعظم من ذلك، وبمثابة النافدة الصغيرة التي تفتح بوجه ابناء الطائفة، ليتطلعوا من خلالها لما هو أبعد من الوزارة ويحققوا في الوقت نفسه نوعا من التطبيع الاجتماعي والنفسي الفعلي بينهم وبين الأغلبية المسلمة، في بلد لا يعلم معظم سكانه عنهم أكثر مما ينقله الإعلام عن مواسم احتفالاتهم كل عام في جزيرة جربة، وما يتردد اثناءها من شعارات التسامح والانفتاح والتعايش مع الأديان والثقافات. وسيلقي كل ذلك بالتبعية عبئا اضافيا على رينيه، وسيجعله في مواجهة اختبارين دقيقين وهما، إثبات استحقاقه الشخصي وجدارته بالمنصب ثم مهارته في تسويق صورة جديدة عن طائفته تجعل أغلبية التونسيين تميز بشكل أفضل بين المواطن اليهودي والعدو الصهيوني، وتقدم لهم أنموذجا ناصعا لليهودي الوطني، الذي يستطيع الدفاع عن مصالح بلده، ويرفض التطبيع مع المحتل، ولا يتقاطع مع الصهيونية. اليهود التونسيون مطالبون بأن يبذلوا جهدا إضافيا من خلال تجربة رينيه ليثبتوا أنهم وطنيون وليسوا صهاينة في أثواب يهود ولعلنا نتذكر جيدا كيف أن قسما واسعا من التونسيين لم يرحب بالتعيين، وتساءل حالما علم بأن الطرابلسي كان هو المرشح لتولي حقيبة السياحة في التعديل الوزاري الجديد، الذي أقره البرلمان الاثنين الماضي، إن كان سيؤدي القسم على المصحف؟ أم انه سيحلف مثلا على التوراة؟ وكيف عبّر قسم آخر بشكل قطعي وصريح عن رفضه تعيين يهودي على رأس وزارة، تحت اي مبرر، وكيف شكك سياسيون ونواب في نوايا الجهة التي اقترحت تعيينه. لقد حصل ذلك في وقت كان فيه كل شيء يدل على أن السياسيين في تونس، وعلى اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، حسموا في أشياء كثيرة، ليس أقلها أنهم يعيشون في دولة مدنية يفترض أن لا تمييز فيها على أساس الجنس أو الدين. ولكن كان من الواضح أن ترشيح رجل الاعمال اليهودي رينيه الطرابلسي للمنصب الوزاري مثل صدمة لمن كانوا يعدون من بين التقدميين والحداثيين، أكثر مما حصل من جانب من يصنفون إسلاميين ومحافظين. ففيما تمسكت حركة النهضة بموقفها المعروف، من انه لا مشكل لها أبدا مع تعيين يهودي على رأس وزارة السياحة، لأنها، أي الحركة، «من صناع الدستور الجديد، الذي يعطي لكل المواطنين التونسيين، بغض النظر عن دياناتهم، حق التواجد داخل الحكومة وتمثيل التونسيين وممارسة السلطة التنفيذية»، مثلما صرح بذلك الناطق الرسمي باسمها لإحدى المحطات الاذاعية المحلية، ظهرت مواقف اخرى ترفض تعيين الطرابلسي «ليس لأنه يهودي، فتلك أمور تخصه، بل لتضارب المصالح . فوزير السياحة المقترح يملك وكالات أسفار وهذا أمر يخصنا»، على حد تعبير النائب ياسين العياري على صفحته على فيسبوك. وذهب آخرون بالمقابل إلى حد اتهامه المباشر بأنه على علاقة مع إسرائيل، وأنه يزور تل أبيب باستمرار، وينظم رحلات سياحية من باريس إلى الكيان الصهيوني المحتل. ومهما يكن الامر فان مثل تلك الانتقادات والاحتجاجات كانت تعكس، إلى حد كبير نوعا من القلق والتوجس الشعبي من التداعيات المحتملة لوجود رجل أعمال يهودي على رأس وزارة، تعد العمود الفقري لاقتصاد تونس. فهل إن اختياره للمنصب كان يعني بالضرورة تطلع المسؤولين التونسيين لجذب رؤوس الأموال الأجنبية لبلدهم، حتى إن كان المقابل السياسي لذلك هو الانفتاح التدريجي على إسرائيل وقطع أشواط اخرى للتطبيع معها؟ لقد سبق لرينيه وهو المسؤول عن موسم الزيارة اليهودية لكنيس الغريبة أن قال قبل نحو أربع سنوات من الآن، عندما تفجرت قضية وصول اسرائيليين إلى تونس في رحلة بحرية إن» السائح الاسرائيلي دائم الاقبال على تلك الرحلة، وإنها توفر اكثر من مئة وخمسين ألف دولار في كل جولة بحرية. فلماذا نخسر ذلك المدخول لأجل عشرين أو خمسة وعشرين سائحا لهم جوازات سفر اسرائيلية؟». وأضاف بأن «الانفتاح هو المستقبل في تونس، فنتنياهو وعباس يلتقيان ويتفاوضان فلماذا نكون ملوكا مكان الملوك؟». وإذا اردنا خدمة القضية الفلسطينية فلماذا لا نذهب اليهم ونتعاون معهم اقتصاديا، خاصة أن الفلسطينيين لهم دكاكين في القدس وقرب المسجد الاقصى وفي بيت لحم». ويبدو جليا أن مثل ذلك المنطق «البراغماتي» صار يكتسب المزيد من المؤيدين والأنصار، رغم ما يتردد عن رفض التطبيع تحت أي ظرف. ولعل التجربة الجديدة ستكون هنا بمثابة المرآة العاكسة لمدى التزام التونسيين الثابت بقضية فلسطين. كما أنها ستفيد في إخراج أبناء الطائفة اليهودية ولو بشكل نسبي من قوقعتهم، ومعرفة الكفة التي يرجحونها بين تونس واسرائيل. ومع انهم يفضلون السير إلى الان بخطى خجولة وغير مكشوفة للاعلام، فإن السؤال الملح هو إن كانت الكلمة النهائية ستؤول لعلاقاتهم وقدراتهم المالية الضخمة؟ أم أن المحدد الوحيد لتوجهات تونس وسياساتها سيبقى انتماؤها العربي والاسلامي الذي ثبته الدستور؟ المؤكد في كلا الحالتين هو انهم سيكونون مطالبين بأن يبذلوا جهدا اضافيا حتى يثبتوا من خلال تجربة رينيه أنهم يهود وطنيون وليسوا ابدا صهاينة في أثواب يهود. ومتى نجحوا في ذلك فإن الأبواب وليست الشبابيك ستفتح امامهم وعلى مصراعيها ليشاركوا بشكل أكبر وأوسع في صنع القرار السياسي للبلاد. كاتب وصحافي من تونس  |
| السّمَوْأل بن عاديا القديم والسّمَوْأل بن مُعاد الجديد Posted: 13 Nov 2018 01:00 PM PST القضيّة الفلسطينية، أمّ الهموم العربيّة، من أولى قضايانا المصيرية الرّاهنة التي أضحت تملأنا كلّ يوم همّاً، وغمًاً، وألماً، وعذاباً، تسير، فيما نراه ونلمسه نصب أعيننا اليوم، في منعطف خطير، بعد أن هجر الأشقّاء وبعض أصحاب القضيّة معنى التآخي، وزلّت بهم أقدامُهم إلى هوّة التجافي، وأصبحوا تائهين في متاهة الخلافات والتراخي، أين منّا تلك «القضيّة» المهيبة التي كانت تُوسَم عندنا بالقداسة والتبجيل، والتي كانت تنخدع لها القلوب، وتلتهب بها ولها الحناجر والخطوب، وتنبض بذكرها الأفئدة والمحاجر في كلّ الميادين والدروب. هذه القضيّة التي كانت تُنعتُ في بلداننا، وأحيائنا، ومرابضنا بأصفى معاني الطهر، والتضحية، والفداء، وكانت تلحق بها أعلىَ معاني التقدير والتوقير، ها قد أصبحت اليوم على عهدنا أو كادت أن تصبح عملة رخيصة يَشتري ويبيع بها المنحطّون والمنبطحون في أسواق المكر، والبؤس، والخديعة، والتعاسة، والنخاسة. هذه القضية طال عليها الأمد، ومع ذلك ما فتئت متغلغلة في قلوب الأحرار، ساكنة في ألباب الأبرار من المُحبّين، العاشقين، والمتعطشين للكرامة والانعتاق، ليس عندنا وحسب، بل لدى كلّ الأجناس، والملل، والنّحل، والإثنيات، والأعراق الأصيلة. المِحَن التي عاناها، والأهوال التي قاساها الشعب الفلسطيني الصّامد لم تثنه أبداً عن المُضيّ في تقديم التضحيات، تلو التضحيات للذود عن أرضه، والدفاع عن أهله، وَصَوْن كرامته، وسمعته، وتاريخه وسط هذا الخضمّ الهائل من النكوص، والتراجع ممّا أصبح يقلق راحتنا، ويقضّ مضجعنا، من المآسي التي حاقت ولحقت بهذا الشعب المناضل منذ ما يُعرف بـ «وعد بلفور» المشؤوم. بعد تلك الرسالة اللعينة التي وجّهها وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور بتاريخ الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، يشير عليه فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ثم جاء بعدها التقسيم الآثم عام 1947، وهو ما أضحى يُعرف بـ «النكبة» التي أفضت فيما بعد إلى قيام «دولة إسرائيل» عام 1948، وصولاً إلى ما أطلق عليه بـ»النكسة «عام 1967. وما تلا ذلك من مظاهر التقتيل، والتنكيل، والاعتقال، والأسر، والملاحقة، والمطاردة، وسواها من سلسلة المظالم المتكرّرة التي ليس لها نظير في تاريخ البشرية. هذا المخاض العسير، وهذا الأوار المُستعر، اللذان تعاقبا على هذا الشعب الأبيّ بمختلف ضروب الأحداث المؤسفة، والمآسي المؤلمة التي مرّت به القضية الفلسطينية وصولاً إلى التفرقة والشّقاق، والشتات والنفاق، وو.. كلها أحداث تاريخية رأيناها تمرّ نصب أعيننا، ومفاجآت مؤلمة خبّأها القدر للعديد من أبناء فلسطين الذين رمت الأقدار بكثيرين منهم بعيداً عن أرضهم قهراً وقسراً، فانتشروا في بلاد الله الواسعة، وفي غياهب الاغتراب والمهاجر، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه. ولكنّهم مع ذلك ظلّوا مشدودين إلى أرضهم، متشبّثين بحقوقهم، ذلك أن الله خصّهم بطاقات، وتضحيات، لا نظير لها صبراً، وَجَلَداً، وتحمّلاً، وتمرّساً، ومواجهةً، وصموداً، ومقاومةً، وتحدّياً، وإصراراً، وهو وحده يعرف ما هي عواقبها، وما هو مآلها، ونهايتها، ومنتهاها. تزوير الجغرافيا دهاقنة الصهيونية العالمية عملوا بدون انقطاع وبدون هوادة، وبلا كلل، ولا ملل، من أجل القضاء على هذا الشعب واستئصاله من جذوره، كما أنهم لم يألُوا جهداً في محاولاتهم اليائسة لطمس هويّته، وثقافته، وتراثه، كما أنهم حاولوا تزوير جغرافيته، وتشويه تاريخه باستعمال مختلف أنواع الحيل، والمكائد، والأكاذيب، والدسائس، والخسائس، والمَكر والخداع لتحقيق هذه الغايات الدنـيئة. الثورات، والانتفاضات، والتظاهرات لم تنقطع ولم تتوقف قطّ، وطفق الشعب الفلسطيني يسطّر صفحات نيّرة جديدة من تاريخه البطولي على مختلف الأصعدة والمستويات متدثّراً بكوفيته الفلسطينية المميّزة، ومنديله الفلسطيني المرقّط الذي أصبح رمزاً للتحرّر والانعتاق في مختلف أنحاء المعمورة. كما أن هذا الشّعب المُسلّح من قمّة رأسه إلى أخمص قدميْه بإرادة لا تُقهر عمل على عودة الرّوح إلى هويّته وجذوره، وإحياء ذاكرته التاريخية، والتعريف بثقافته، وأدبه، وشعره، وتراثه، وفنونه، وما فتئ الأبطال الفلسطينيون من الشهداء الأبرار من كلّ الأعمار يروون أرضهم الطاهرة بدمائهم الزكية غير عابئين بما تقوم به الآلة الحربية الإسرائيلية من تقتيل، وتنكيل بهم. تلك الآلة التي تعمل على طمس هويّتَه، واغتصاب أراضيه ومزارعه، وضيعه، كما عملت بدون هوادة على الزجّ بأبنائه في غياهب السّجون، وحرمتهم نعمة صلة الرّحم مع ذويهم، وأقاربهم وأهاليهم، وخلاّنهم. ومع ذلك ما زالت الأرواح تتنفّس الصّعداء، وما برحت ألسنة اللّهب تتصاعد وتتعالى في كل مكان. وما فتئ إخواننا الفلسطينيّون يعانون من الشّقاق، والتشرذم، والخلافات، والتصدّع الذي يكاد أن يميد بصرح الوحدة الوطنية المنشودة، والتعثّر في تحقيق المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية، والقضاء على مختلف المساعي، والنوايا الحسنة التي بذلت وما زالت تبذل حتى اليوم لرأب الصّدع، واندمال القروح، وتقريب الهوّة في الخلافات التي تنشب بين الفينة والأخرى بين شخصيّات وازنة من مختلف الفصائل الفلسطينية وقياداتها. الاعتقالات والتعسّفات والمواجهات بين شرطة المحتلّ والمتظاهرين، والإضرابات الشاملة للأسرى الفلسطينيين الأبطال التي عمّت السّجون الإسرائيلية الرهيبة تزيد في تأجيج الوضع المتردّي على مختلف المستويات. هذه السّجون التي لا تعرف معنى للشّفقة ولا للرّحمة حيث تضرب إسرائيل عرض الحائط بكلّ المواثيق والعهود الدّولية التي لها صلة بحقوق الإنسان المعترف بها دولياً حتى ولو كان هذا الإنسان أسيراً ومظلوماً، ناهيك عن سوء المعاملة التي يعامل بها السجّانون الإسرائيليون الأسرى الفلسطينيين الذين يتعرّضون لأقسى ضروب التعذيب والتنكيل، ممّا أدّى ببعضهم إلى الإستشهاد داخل هذه الأقبية المعتمة، واستمرار المواجهات الشعبية الحاشدة المتوالية على جميع الأصعدة مع قوّات الاحتلال وسواها من التجاوزات الخطيرة التي تقترفها إسرائيل بتعنّت وعناد. وفي الوقت الذي يرتمي فيه بعض « الأشقّاء» في أحضان الخصوم، ويهرولون للّحاق بقطار التطبيع بلا اكتراث ولا مبالاة يظلّ آخرون يذرفون الدموع حرّى ساخنة، وينظمون قصائد عصماء مسجوعة ومشحونة بالغضب والتذمّر مما ترى أعينهم، وتسمع آذانهم. إن أولئك ينسون أو يتناسون أفظع المآسي والمظالم التي ما زالت تحدث كلّ يوم على مرأى ومسمع منهم، إنهم يكتفون بالتفرّج، والتحسّر بلغة باكية، شاكية، حزينة. في الوقت الذي ما برحت إسرائيل تتمنّع، وتتمسّك بكل الأراضي الطاهرة السّليبة، وتتمادى في بناء المستعمرات تلو المستعمرات، وتبسط نفوذها الآثم على مختلف الأراضي الفلسطينية وهي ماضية في غطرستها وتبجّحها ولا أحد يبالي. ما أكثر النياشين، والأوسمة، ولوحات الشّرف وأيّ « شرف»! التي تُنمّق صدورَنا، وتعلو جدرانَ دورنا، وقصورنا وبيوتاتنا وليس لنا من ملاذ سوى تاريخنا، إذ منه نستلهم الدروس والعبر، و نستخلص المعنويات لمواصلة مسيرتنا. إلاّ أنه لا يبقى لنا في آخر المطاف سوى حصاد من هشيم، أو قبض من ريح. وما فتئنا في كل مناسبة نستدرّ تعاطف العالم، ونصف له جميع أشكال الأهوال والفظائع التي تُرتكب بحقّنا. إلاّ أننا مع ذلك ما لبثنا منشغلين، منبهرين ومشدوهين بالأوار المُستعر فى ميادين ساحاتنا، وأحيائنا، وأرباضنا، ومرابضنا، أمّا هم فما فتئوا يفتكون وينكّلون. ويظلّ الأملُ معقوداً على التقارب، والتسامح، والتصافح، والتداني، والتصافي، والتفاهم، والتلاحم، والتلاؤم، وإيلاء ظهورنا للبغضاء والتجافي، وردّ، وصدّ كلّ ما نتلظّىَ به، ونتردّىَ فيه من مشاكل وقلاقل، وأوهام وآلام. حيال هذه الأحداث لم يعد مُحيّانا لا بالوجه الحزين العنيد، ولا بالجَذل الباسم الرّغيد، بعد أن أضحى صيفنا قائظاً مُستعراً، وغدا خريفنا شاحباً مُكفهرّاً، وشتاؤنا ينذر بصقيع قارص، وربيعنا ينبئ بانفراج مُزهر، مع ذلك كلٌّ منّا ما زال متسربلاً بهمومه، وقلقه، وهواجسه، ولا أحد يبالي بآلامه، ولا بآهاته، ومعاناته، ولا بأحزانه وعذاباته. تداخل القوّة والليّن «صمويل المُعَادِي» الجديد لم يعد يكترث بأيّ شئ مثلما كان عليه الحال مع جدّه الأبعد، وابن طينته «السّموأل بن عاديا» القديم، الذي كان يُضرَب به المثل في الصّدق، والأمانة، والوفاء عند قومه، وعشيرته من بني طينته الأقدمين، حيث كان يُقال في الأمثال في مجال احترام المواثيق، والوفاء بالعهود قولهم المأثور، ومثلهم المشهور: «أوفىَ من السّموأل» ذاك البعيد عنا اليوم زماناً ومكاناً، الغارق في سديم المسافات السرمدية. إنه على عكس ابن جلدته القريب المعاصر، فالقديم كان يأبى أن يدنّس عِرضُه، أو أن تُهان كرامتُه، وكان حريصاً على ألاّ تضرّ به صروف الدّهر، وتلحق به ضروب اللّؤم، ومساوئ المكر والخديعة، فكانت تغدو في أعيننا كلّ الثّياب الرثّة، والأسمال البالية التي كان يرتديها جميلةً حَسنة عليه! أبياته الشعرية الجميلة التي صدحت بها كلّ الأجيال ما زالت ترنّ في آذاننا إلى اليوم: (إذا المرءُ لم يَدنس من اللّؤم عِرضُه / فكلُّ رِداءٍ يرتديه جميلُ… تعيّرنا أنّا قليلٌ عَدِيدُنا / فقلتُ لها إنّ الكِرامَ قليلُ.. )!. قلتُ في مناسبات سابقة، ولا أتورّع من القول مرّةً ومرّات.. إنّ أبناء طينتنا قومٌ مشهودٌ لهم، ومشهورون بالصّفح والتسامح والإيثار، حتى وأن كانوا غارقين في الإثار والأثَرَة، رحماء فيما بينهم، أشدّاء على أعدائهم، (لا يسألون أخاهم حين يندبهم / في النّائبات إذا قال برهانا.. )! (حشدُ على الحقّ عيّافُو الخنا أنفٌ / إذا ألمّت بهم مكروهة صبروا )، و(أقْسَمَ المجدُ ألاّ يحالفهم / حتى يحالفَ بطنَ الرّاحة الشّعرُ)! وهم معروفون بثنائيتهم المركبّة التى تتداخل فيها القوّة والليّن، والبّأس والشدّة، والصّلابة والطراوة، والأنفة، والرّخاوة، إذ – كما قال عنهم شاعرُهم- ( هم قوم تذيبهم الأعينُ النّجلُ / على أنّهم يذيبون الحديدَا… طوع أيدي الغرام تقتادهم الغيدُ / ويقتادون في الطّعان الأسودَا…. وتراهم يوم الكريهة أحراراً / وفي السّلم للغواني عبيدَا)!… أمّا الآخرون فلقد اقتدّت الشّفقة من قلوبهم، فغدت وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ، ينكّلون بهم بدون تمييز، حتى غدت أعوادُهم بعد طول عناء هشّةً واهية، يأسَوْن ويتأسّون على أبنائهم، وإخوانهم المشرّدين، والمُهجَّرين، والمُبْعَدين عن أوطانهم، قهراً وقسراً وعنوةً، خاضوا من أجلهم معارك ضارية، إلاّ أنهم كشفوا فيها عن ضعفهم، ووهنهم، وخذلانهم، وخيبتهم، فلزمت الكآبة مُحيّاهم، وسكنت الحسرة قلوبَهم، ولكنهم مع ذلك واثقون أنّ آخرَ الليل الطويل نهار. كاتب وباحث من المغرب  |
| قضية خاشقجي Posted: 13 Nov 2018 01:00 PM PST |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق